بأقلامهن

لبنان يحتاج إلى وصاية دولية*

*
*جودي الأسمر- جريدة البيان/الأربعاء ٣١ آب ٢٠٢٢*

تشبه دولة لبنان شيخاً مريضاً عمره أكثر من ١٠٠ سنة يحرس أبناؤه الضالّون أنفاسَه الأخيرة بالإلهاب والتجييش الطائفيين فيما يستمرون بتقاسم ثرواته على حياته وقبل أن يحتضر بكثير.

هذا في التخييل الذي منبته الواقع ولا ينكره أبناء كل الطوائف سواء كانوا طائفيين أو من الأقلية جداً غير الطائفية والتي تكفر اليوم بجدوى أن تكون علمانية في دولة تأسست على الطائفية، وقد أضحت شريحة من هؤلاء تبحث عن حياة بالحد الأدنى تحت عباءات طوائفها التي تبيّن أنّ لا مناص من سلطتها والإذعان لها أو الهجرة لمن استطاع.

أما علمياً، فلبنان دولة “منقوصة السيادة”، وكم مضحك تعبير “السيادة” حين يستخدمه فريق سياسيّ يناطح به السّحاب. شعور من الضحك يغزوك ليس فقط في معنى هذه السيادة “المخردقة” من أميركا وحلفائها، إنّما في جدوى هذه السيادة أصلاً (لا داعٍ للحديث عن المحور الإيراني في لبنان وهو الذي يتباهى بأنه تابع لإيران).

والحديث عن فشل الدولة والدولة الفاشلة بات أكثر من تافه ولا أدلّة لإثباته سوى أن تعيش في لبنان يومين اثنين أو تدخل إحدى دوائره الرسمية إن كانت أبوابها مفتوحة أو تتفرج على حفلات التفاهة في مجلس النواب أو تقف عند شاطىء عكار وطرابلس والقلمون لتجد كيف يهاجر المئات على قوارب الموت بدون أقل شروط السلامة أو ترى طلبة جامعيين هائمين مشرّدين بدون جامعة رسمية تحتضنهم وعشرات الأسر المكلومة على أولادها في انفجار العصر تبخّرت حقيقته مع الدخان وذوت مع الرفات.

هذا ما يقتادنا للحديث ليس فقط عن الانتهاك الخارجي للسيادة، بل الانتهاكات الداخلية لهذه السيادة، والتي يستعصي القضاء عليها وهي متمادية ومتغلغلة في كلّ مؤسسات الدولة المؤتمرة للعصابات السياسية وأزلامها، و”العيش” الذي قضت عليه مافيات الدولار والمازوت والطحين، والأجهزة المخابراتية التي تستثمر في الفقر وتستبيح هشاشات المجتمعات والشباب العاطل عن العمل بقرار سياسي وتغطية أمنية…

فشلت الدولة في الإدارة ضمن كلّ مرافقها وأدوارها أمام الفساد الذي هو عكس أي “سيادة” لهذه الدولة.

لنفكر حقيقة، ما معنى وما جدوى السيادة في دولة فاشلة؟

أعتقد أنّه منذ تأسيس فكرة “لبنان”، لم يطالب لبنانيّون بعودة الانتداب إلى لبنان مثلما طالب بها لبنانيون من المسلمين والمسيحيين بعد انفجار المرفأ وتزامناً مع زيارة ماكرون في منذ سنتين تماماً من اليوم في ١ أيلول ٢٠٢٢. ولم تواجَه هذه المطالبة بالانتداب باستنكار جديّ من قبل لبنانيين آخرين. الكلّ لا يستطيع أن يداري قصور لبنان عن إدارة نفسه. ومَن يعارض أن تنتهك “وصاية” البلاد، فهنيئاً له “المستعمرة” السابقة التي صارت مزرعة، فيما “المستعمِر” لا يزال دولة كبرى، ورئيسها رئيس مئات آلاف اللبنانيين الذين حصلوا على الجنسية الفرنسية ومعظمهم يعيش في فرنسا، ومن بقي منهم في لبنان عاد غالبيتهم إلى فرنسا خلال الأزمة، ويكملون حياتهم بعيداً عن كلّ أدوات البؤس، مواطنين صالحين وناجحين في فرنسا.

لقد أعطي لبنان مثل كلّ الدول المستقلّة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فرصاً زمنية كافية لتظهر جدارتها في حكم نفسها بنفسها. والنتيجة؟ نجحت بعض الدول وفشل لبنان ولن يصلح الزمن ما أفسد النظام اللبنانيّ الذي تحتار كيف تصلحه فيعجزك!

ممكن الرهان على الآتي: إرسال لجنة دولية حيادية إلى لبنان تجري استفتاء جديداً بين النخب اللبنانية مثل لجنة “كينغ كراين” التي أرسلها مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 إلى سوريا وفلسطين. التزمت اللجنة في ذلك الوقت النزاهة والشفافية وحملت معها إلى واشنطن تقريراً يعكس إرادة الغالبية الساحقة من سكان سوريا بقيام الوحدة السورية ورفض إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

لو عادت هذه اللجنة أو ما يشبهها إلى لبنان لكان الجواب الأعمّ لدى النخبة والمثقفين هو وصاية دولية على لبنان.
تحيط الوصاية الدولية علامات استفهام كثيرة، ولا يزال هذا المصطلح ملتبساً ومرعباً للمزاج الذي يظنّ أنّ السيادة هو مشروع تحرري من الخارج وهذا أرث مفهومي من القرن العشرين، ويفوته أنّ السيادة في لبنان وفي كلّ مكان عليها أن تستتب من خلال مشروع تحرري داخلي (من الفساد وجذوره وتبيعاته)، ولا سبيل له سوى الوصاية الدولية التي يفصلها “ميثاق الأمم المتحدة” في المواد 75 إلى 85 من “نظام الوصاية الدولي”.

وتفسّر أهم أهداف نظام الوصاية الدولي في توطيد السلم والأمن الدولي، وترقية المواطنين في أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد والتعليم، والتشجيع على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز، وإحقاق المساواة في كافة مجالات الحياة.

لنسأل معظم اللبنانيين، سنجد أنّ حلم معظمهم بات وصاية دولية على لبنان.

الحلم موجود، يبقى أن يعمل اللبنانيين على الضغط لأجل تحقيقه، بعيداً عن الطوباويّات والأحلام المجهضة، وأسوأ منها مزيد من الفرص مع فريق سياسيّ لبناني “طلعت ريحته” وعمّت كلّ شيء حتى أقاصي العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى