مجتمع

القهر بالأسواق الشعبية: حتى طرابلس لم تعد “أم الفقير

على طول سوقي العطارين والخضار المتلاصقين في قلب طرابلس القديمة، تفضح وجوه الناس العابرة وسط الجموع، وهي تتدافع بأكتاف بعضها بعضًا، حالة اليأس والغضب وقلة الحيلة التي تعتريها. وجوه مصدومة ومكفهرة بالحزن والقلق والريبة، وهي تلتفت يمنة ويسرة في رصد الأسعار الممهورة على ألواح العربات.

هنا، في واحد من أكثر الأسواق الشعبية في لبنان، والتي شكلت تاريخيًا قبلة عوائل الأسر في الأحياء المهمشة، تخسر ميزاتها في تلبية حاجات الفقراء أيضًا، كحال مختلف القطاعات والأسواق الأخرى في لبنان.

بين الخضار والعطارين
وكعصفٍ صادمٍ، تنزل نداءات الباعة عند عربات الخضار واللحوم والدواجن على مسامع رواد السوق. يقف رجل أربعيني خلف بسطته التي يفترشها بقطع الدجاج، يكش الذباب عنها بورقة كرتونية، ويخترق صوته الملعلع صخب العابرين وهو ينادي: “كيلو السفاين حصري بـ450 ألفاً.. وخود كليان لرمضان بـ880 ألفاً”. ثم ترمقه سيدة بعينيها كما لو أنه شتمها، وتمضي مرددة بسخرية الغاضبين: “والله كتير عرض مغري!”.

في هذين السوقين الملاصقين اللذين يفتقدان لأدنى شروط السلامة الصحية والبيئية، يوحي مشهد تدافع الناس في أول أسبوع رمضاني، وكأن أهل المدينة الأكثر فقرًا، يستطيعون توفير كامل حاجاتهم منه. لكن الواقع خلاف ذلك تمامًا.



ووسط المارة المسرعين الذين يخفقون بتجاوز بقع المياه الآسنة وعصارة الدم وبقايا اللحوم والخضار التالفة، يخبرنا أبو محمود يائسًا وهو يقف عند براد للألبان والأجبان: “هل يعقل أن أشتري قطعتي جبنة حلوم فقط لأولادي الأربعة بعد إلحاحهم على طلبها وتجاوز سعر الكيلو منها الـ500 ألف ليرة؟”. هذا الرجل الذي يعمل مياومًا ومرتين بالأسبوع فقط في سوق البالة مقبل 300 ألف ليرة باليوم، يتحدث لـ”المدن” عن غضبه الكبير من شعوره بالنقص والعجز أمام أطفاله، “الذين يحلمون أن نعد لهم طبقًا يتضمن قطع اللحوم والدجاج، بعدما ملّوا من أكل الحبوب والبطاطا والأرز”.



لكن، يبدو أن حتى شراء الخضار والبقالة أصبح مستعصيًا على الفقراء في السوق الشعبي للمدينة. وبين عربات الخضار، تتنقل ببطء الحاجة سوسن، ويكشف لهاثها أوجاعًا كثيرة في جسدها المنهك من أمراض السكري والضغط والقلب، أمراض تتركها تتنامى وتستفحل بلا علاج أو دواء. وتشكو لـ”المدن”: “أحمل معي 200 ألف ليرة، يجب أن تكفيني لتحضير إفطار لأولادي الثلاثة ما لا يقل عن ثلاثة أيام. لكنني صدمت بسعر الخسة 60 ألفاً، وسعر كيلو البطاطا 50 ألفاً، وباقة البقلة بـ25 ألفاً. هذا ولم أشتر لا أرز ولا أي غرام من اللحوم. فماذا أفعل؟”.


وأمام محل صغير لبيع اللحوم في سوق الخضار، يجلس صاحبه على كرسي، يلتفت يمينًا وشمالًا، ظنًا منه أن ابتسامته ستجذب الزبان. يقول لـ”المدن” إنه لعقود كان يلقبه زبائنه بـ”لحام الدراويش” لأنه تعود على مراعاتهم بالأسعار. أما اليوم، فـ”صرت مجبرًا بعدما تجاوز الدولار سقف الـ100 ألف ليرة، أن أسعر كيلو اللحمة بـ10 دولارات تجنبًا للخسائر التي أتكبدها”.

لكن زبائنه الفقراء لم يتقبلوا التسعيرة الجديدة، فأصبح منذ أشهر يشتري ويعرض ربع الكمية التي تعود عليها سابقًا، حتى أن أحد زبائنه هاجمه بالقول: “مفكر حالك صرت خواجة لتسعّر بالدولار؟”. ثم يردف: “الناس هنا موجوعة، متألمة من الفقر، أحزن حين أرى زبائن كانوا يشترون ما لا يقل عن 2 كيلو لحمة، أصبحوا يطلبون مني أقل من نصف كيلوغرام”.

تحولات مقلقة
وعلى جنبات السوق، يظهر أن أكثر العربات انتعاشًا في حركة البيع، هي تلك التي تعرض خضارًا بائتة وتالفة، فيتهافت عليها الناس، كتحف نادرة، لشرائها بـ”تراب المصاري” كما يقول أحدهم!

وواقع الحال، تعكس هذه المشهديات القليلة، عينة صغيرة من تحولات جذرية طرأت على حياة الأسر، وأثرت على صحتهم النفسية والصحية، ودفعتهم لخيارات لا تراعي السلامة الغذائية لسد حاجاتهم.



لكن، إن كانت الأزمة اللبنانية قضت على الطبقة الوسطى ودمرت القدرات الشرائية للموظفين نتيجة تآكل قيمة رواتبهم، فإنها أيضًا ضاعفت من وتيرة سحق الفقراء في الأطراف والمناطق المهمشة.

إنهم فقراء يعجزون راهنًا عن التعايش مع مستوى جديد من الحرمان الشديد: يمرضون بلا دواء وطبابة، يجوعون فيأكلون أبخس أنواع الطعام، يعيشون في بيوت مظلمة بلا اشتراكات كهرباء، يشربون مياه آبار غير نظيفة، أطفالهم بلا مدارس، لا تصلهم بانتظام تحويلات مغتربين، كما لا تطالهم بعدل مساعدات ومعونات يجري توزيعها بانتقائية ومحسوبية.. وكلها مؤشرات خطيرة في بقع شعبية منسية تقاوم الانفجار.

المصدر :المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى